كثيرا ما يكون الأطفال ضحايا لقصر نظر الآباء أو لنقص في خبرتهم التربوية أو ضعف في شخصيتهم... "آفات" تولد داخل الأسرة أجواء ملؤها القلق والتوتر يعاني منها الجميع، كبارا وصغارا. لا بأس من الوقوف لحظة أمام المرآة والقيام بجرد مبسط للطباع والسلوكيات التي تصدر عن الآباء ويكون لها ردات فعل لدى الأطفال، ردات تشعل فتيل التوتر..
الجري وراء الكمال
من بين سلوكيات الآباء المسببة للقلق العائلي الأكثر شيوعا مطالبة الطفل بإنجازات فوق قدراته العقلية. يتخذ الأبوان هذا الموقف بدافع حرصهما على تفوق الطفل وسرعة نضجه في عصر أصبح فيه تنظيم المباراة لانتقاء "أحسن" المتنافسين منذ مرحلة التعليم ما قبل المدرسي شيئا عاديا...
صار الآباء يعيشون واقعا تمارس فيه ضغوطات على الأطفال بالبيت وبالمدرسة. بالمدرسة لا ينال الطفل رضا والديه إلا إذ أحرز على نتائج ممتازة، فهو دوما وأبدا مطالب بإنجازات أعلى من مستواه ـ بالإضافة إلى التفوق في الميدان الدراسي نحو حالات يطالب فيها الأبوان الطفل بالتزام آداب وقواعد الكبار في التحية، في الجلوس، في الأكل، في الحديث...
قد يستجيب الطفل لطلبات الأب أو الأم ويبذل كل ما في جهده لتحسين إنجازاته وتوجيه سلوكه وفق وجهة نظر والديه. لكن حين لا يصل إلى المستوى المطلوب، يبدأ بانتقاض نفسه ويكثر اضطرابه، الشيء الذي لا يغبط له الأبوان، مما يعكر جو الأسرة ويفتح الباب على مصراعيه لمظاهر التوتر.
عندما يكلف الآباء أبناءهم بتحقيق أحلامهم...
كل الآباء يحلمون بمستقبل زاهر لأطفالهم، لكن منهم من يتعدى الخطوط الحمراء فيبرمج، يخطط ويقرر بما يجب أن يحصله الطفل من تعليم وتدريب وتمهين. تحكي منى، 24 سنة: "كنت تلميذة مجتهدة طوال دراستي الابتدائية والثانوية، أحصل دوما على الدرجة الأولى في جميع المواد. لكي أرضي والدي، كنت أعيش تحت ضغط دائم، وتلك القائمة الطويلة العريضة من الممنوعات، أشعرتني بأنني يجب أن أنجح من أجلهما. لكن خوفهما، الذي وصل إلى حد الهلع من توقع الفشل، انعكس علي، ففقدت ثقتي في نفسي ودخلت مهزومة إلى امتحان الباكالوريا. لم أستطع اجتياز هذه العقبة، الشيء الذي استغرب له أساتذتي ورفاقي. لم أستطع ولوج الجامعة وانقلب الجو بالمنزل إلى جحيم قائم...".
شهادات كهذه كثيرة. فالآباء الذي يحلمون بأن يحقق أطفالهم أحلامهم، بأن تكون فلذات أكبادهم امتدادا لهم عديدون. أسر كثيرة ترتكب نفس الخطأ تحت شعار الحب والقدرة على قراءة المستقبل... لماذا يقتل الآباء أحلام أطفالهم؟ تجيب السيدة الباتول الحارتي، أخصائية في علم النفس: "الدوافع كثيرة قد ندركها أو لا ندركها. هناك الأب الذي حرم من دراسته لظروف اجتماعية أو مادية قاهرة، واضطر إلى الاعتماد على نفسه. تجده، بعد أن أصبحت له أسرة وأبناء، تواقا بشدة إلى تحقيق حلمه القديم الذي حرم منه، ويريد أن يرى في أبنائه الصورة التي كان يتمناها لنفسه، فيبدأ بالضغط من موقعه كأب ليوجههم إلى الطريق الذي يؤدي في النهاية إلى تحقيق هذا الحلم.
هناك أيضا الأب الميسور الذي يمتلك الثروات فيرغب في توجيه أبنائه وجهة علمية معينة تؤهله في النهاية لإدارة أعماله.
الأمثلة السابقة تعني الآباء بشكل خاص، لكن في مجتمعنا الأبوي، نجد كذلك نماذج للأمهات يرين تفوق أبنائهن مسألة حياة أو موت لأسباب لا علاقة لها بمستقبل الأبناء نفسهم، كتلك الأم التي لم تنل حظا من التعليم وتشعر في أعماقها بالنقص لأنها أقل من جاراتها... تتصور أن تفوق أولادها هو ردة فعل عملية لها وشهادة دامغة لها على أنها كأم قد تفوقت على الجميع. أو تلك الأم التي هجرها زوجها فتريد أن تثبت له، من خلال أولادها، أنها أم وسيدة عظيمة لم ينتبه لقيمتها بدليل أنه برغم تخليه عنها، قد ساندتهم حتى وصلوا إلى أعلى قمم النجاح، أي أنها خرجت بثروة لا تعادلها أي ثروة أخرى وأنه، في معركته معها، كان الخاسر الوحيد.
الأسر التي تخول فيها للأبناء مهمة تحقيق أحلام الآباء تعيش جوا من التوتر الدائم وإن كان قلقا خفيا غير بين للعيان، قلق يهدم أسس وقواعد بناء الشخصية المتناسقة.